بسكويت ،جنرال و نابالم

بسكويت، جنرال، ونابالم
..... 
قبل ظهيرة مشمسة لأحد أيام شباط ١٩٨٦، وكنت حينها قد التحقت بالخدمة الإجباريةقبل عدة أشهر، يعني لا أزال اخضع للدورة العسكرية باختصاص (الحرب الكيميائية)، جاءت الأوامر بالتوقف عن الدروس،والتهيؤ لاستقبال ضيف كبير..!
كنا حوالي العشرين من (تلاميذ صف الضباط) ، ونكاد نكون من كل سوريا. 
كان بعضهم أوسم مني، إلا أنني كنت أكثرهم طولاً وقيافة(.....)، مما أدى لاختياري لأكون قائداً للمجموعة..
- أنا؟
-نعم.. وستقدم حرس الشرف للضيف القادم اليوم ..
هكذا أجابني الضابط المهندس قائد الدورة.. 
أنا المسبب الدائم للفوضى وعدم الإلتزام، أنا الذي أحيل كل أمر إلى سخريةو لهو، سأكون واجهة للمجموعة؟! 
كانت الأوامر صارمة وسريعة بأن نتجهز على عجل..
وكان ذلك،
فنصف ساعة كانت كافية كي نتجمع أمام بوابة الوحدة العسكرية التي نخضع لدورةالإختصاص في منشآتها.
حضرنا بكامل هندامنا،وطبعاً كوننا في دورة عسكرية فأهم ما سنهتم به هو نعومة ذقوننا، ولمعة البوط الأسود ذي الرائحة التي لا تخفى على احد..
اصطففنا والضحك لا يكاد يتوقف،. تارة علناً وتارة مكتوماً و بالسر، فالأمر على ما يبدو جدي أكثر مما نعتقد... 
كان تلعثمي أو تغييري لبعض الكلمات والحركات التي يجب الإلتزام بها، تارة عن قصد وتارة عن عدم قدرة، هو مثار للضحك.. 
كيف وأنا الذي قاربت على الخمسة أشهر في الدورة ولم أخاطِب أحداً بسيدي -ولدي سجل حافل بالعقوبات لهذا السبب-؟. 
لكن عندما علمنا أن الضيف هو وزير الدفاع، تحول الأمر إلى قلق ورهبة..نعم وزير الدفاع مصطفى طلاس بشحمه ولحمه سيحضر أمامنا ويجب أن يكون كل شيء مرتباً.. 
حاولت أن أقنع القائد أن أكتفي بمخاطبة الضيف برتبته(سيادة العماد)، لكنه أصر على لفظ "سيدي"، بل وفوقها سيادة العماد..
تعذبت كثيراً حتى أتقنت ترتيب أوامر التحية لرفاقي ثم مخاطبة الضيف ب:
(( سيادة العماد،. حرس الشرف جاهز للتفتيش سيدي..)).. 
وما هي إلا سويعة، إلا وسيارات موكب صغير تتوقف عند البوابة التي هرع إليها ضباطنا.. والحقيقة لم يكن مع العماد مرافقين كثر، وكأنه آت لزيارة صديق.. ولم ألحظ تلك النياشين التي اعتدنا رؤيتها على كامل (واجهته) في صور الصحف.
انشالله ما تطلع معي سيادة العميد بدل عماد.
انشالله ما أقول: حرس الشرف جاهز بانتظاركم، بدل  جاهز للتفتيش...
هذا ما كنت اهجس به بقلق، فتركيبة دماغي "أدبية"،وليست" علمية" ،رغم أن شهادتي الثانوية كانت علمي... 
توترت اعصابي و تشنجت اعضائي بينما هو يقترب بابتسامته المعهودة كلما رأيناه على شاشة التلفاز.. 
أحسست أني لم أعد أسمع صوتي...خطوتُ بانتظام ثم حييته بقوة وقلت ما يلزم دون إدراك، حتى أن الرجل لم ينظر تجاهي ولم يرد التحية بل ولم ينظر لحرس الشرف كله..
ثم كي لا تذهبوا بعيداً، فقد كان حرس الشرف هذا أعزلاً، أي نعم، لم يكن أحد منا يحمل اي سلاح كعادة حرس الشرف.!! ولا موسيقى ترافقنا.. كنا نبدو بؤساء.
أكمل طريقه بصحبة مستقبليه،فأعطيت الأمر لرفاقي :"استارح- راحة"
بدأت الأعصاب بالارتياح قليلاً، وملامح الوجوه بدأت تعود لحيويتها.. 
دلف الجمع في عمق المكان إلا نحن "حرس الشرف"، و مع اختفاء الموكب داخلاً خرج من خلفنا ضابط التوجيه المعنوي، متلصصاً،بقامته القصيرة، وكأنه كان ينتظر ابتعاد هذا الضيف الثقيل..وكانت اطلالته تلك كفيلة بموجة ضحكات نصف مكبوتة،والتي تحولت إلى دموع وآلام في البطن.. 
أذكر ذلك الضابط، والذي لايمكن أن يعطيك أي ايحاء، لا بالشكل ولا بالمنطق ولا بالسلوك انه ضابط أو أنه درس أكثر من الاعدادية حتى، لكنه كان يحمل رتبة رائد، ولهجته جبلية قاسية ولا تكاد تفهم، كنت أجزم انها لهجته الخاصة، إذ لايمكن لأحد أن يتكلم بعامية غير مفهومة مطعمة ببعض كلمات فصيحة ومشوهة إعرابياً (من حيث الضم والفتح والجر)ومخارج حروفه ضائعة،ولفمه حركة تشبه من أصيب باللقوة، وصوته ذو رنين معدني مخنوق..
والشهادة لله انه كان بسيطاً وطيب القلب، ولم يؤذ أحداً طوال فترة وجودنا هنا..لكنه كان دوماً غارق في الزيوت و الشحوم الداكنة من جراء معالجة سيارته (الجيب واز) التي لا يكاد يمر يوم عليها دون أعطال، ومن هيئته تلك عرفت سبب رفضه أن يكون في استقبال العماد، بل عرفت فيما بعد انه حتى أولئك الضباط المهندسين الذين تهربوا بحجج كثيرة كي لا يكونوا بدلاً مني في تقديم حرس الشرف،رغم أنهم كانوا في استقباله، هم أيضاً لم يرغبوا في أي حدث يُفسد عليهم جلساتهم الدائمة على ورق اللعب وشرب المتة والتسلية..
لكن أغرب ما في الأمر أن هذا الغارق في الزيوت والشحوم، كان المسؤول عن التوجيه المعنوي في الوحدة العسكرية، و لطالما اختنقنا بالضحك المكتوم في محاضرة التوجيه أو عندما يقرأ النشرة السياسية الأسبوعية حيث هنا تكمن الطامة الكبرى، إذ أنه مضطر لقراءتها بنفسه..وكانت كل نشرة سياسية يعقبها أيام من الضحك الهستيري بيننا كلما تذكرنا أخطاءه اللغوية الفاحشة وطريقة لفظه، بل وأحياناً استنتاجاته الخاصة التي كانت أطرف ما نلتقط من الرجل.. 
وللمثال، فقد كان اسم الرئيس الأمريكي ريغان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحيم بيغن.. في كلا الإسمين حرف الغين يُلفظ (Gالانكليزي) إلا أن الرائد كان يلفظه (غيناً) ويصر على قراءة الإسمين بنفس الوزن.. ريغان وبيغان..ويستنتج أن تحالفهما الاستراتيجي هو تحالف"قحبات سين...ك أُختِين"الجيش السوري وسيادة الرئيس..
سألته :"سيادة الرائد، شو هالزيارة المفاجئة..بعدين شو في جوّات الوحدة،أنا مو شايف إلا هالغرفتين الجربانين؟"
فقال بلغة العارف: "هَودي الغرفتين الجِربانين، إسْمِن معمل النابال(يقصد النابالم) و هَوْدِنو سيادة العماد مَيْدَشْنِن اليوم، بس ماتحكي لرفقاتك شي ...! " 
معمل..؟! كنت أسمع بين الحين والآخر كلمة معمل في الوحدة فلا يخطر ببالي الا معمل بسكويت.. 
لكن ولله الحمد هاقد تطورنا، وصار عندنا معامل عسكرية، بل ويجب التكتم على سريتها.. 
(طبعا يبدو أن الجيش السوري اهتم بتصنيع مواد أو أسلحة باتت من منسيات جيوش العالم في عام ١٩٨٦).. 
مرت حوالي الساعة، وبينما نحن في قيلولة الانتظار.. دخلت سيارات الموكب ذاتها للداخل.. لتخرج بالضيف ومن معه دون أن يضطرني للارتباك في تحيته مرة أخرى سوى تلك التحية الجماعية التي أديتها مع رفاقي..
انتشرنا وكانت فترة الدروس (المعتادة)قد شارفت على الانتهاء..وبدأ الضباط بالمغادرة إلى مبيتهم..وكذلك جزء من رفاقي في الدورةالذين لهم بيوت في دمشق.
أنا لم أكن أنزل في المبيت رغم وجود بيت لي في دمشق،. الا ان البيت آنذاك كان مرصوداً من رجال الأمن وكانت حملة اعتقالات قد طالت بعض رفاقنا ففضلت ان أبقى حبيساً في الوحدة ريثما تهدأ الأمور..
كنت أنا ومن يتبقى من الزملاء نعيش في غرفة كبيرة  من المعدن ومغلفة من الداخل بألواح خشبية كي تلائم تقلب الطقس، وكانت تسمى (برّاكة). وفيها الأسرة المعدنية تركب بطبقتين..
كان لدينا بعض المؤونة وخزانة معدنية صغيرة لوضع الضروريات للجميع،.وراديو ترانزستور(ناشيونال)مغلف بجلد بني اللون تعود ملكيته لرفيقنا الحلبي الأرمني "خاتشو "..كان الراديو أنيسنا وسلوتنا في فراغات ما بعد الظهيرة والمساء.. 
رفاقي يمارسون بعض ألعاب التسليةالتي لم أمل إليها قط، وكنت ألوذ بالقراءة،حيث كنت حينها مولعاً بقراءة كتب علم النفس والفلسفة.. 
بعد الغداء في ذلك اليوم..تمددنا كل في سريره، وكان علي الفندي مولعاً بالأخبار فهو من بدو الجولان، ويكاد يجبرنا على سماع نشرة الثانية والربع من اذاعة دمشق ونشرة اخبار المساء من إذاعة إسرائيل..ولك أن تتخيل "خاتشو"صاحب الراديو الذي لايفهم العربية كما يجب، بكل لطفه وهو يرضخ (لجلافة) ذاك البدوي الذي يستعين بشعر البداوة الجميل في كل المواقف، في الجد والهزل..
كان الفندي لايصدق الا (اسرائيل)، وهو الذي هجرته مع أهله طفلاً قبل عشرين عاما.
حان وقت نشرة أخبار (دار الإذاعة الإسرائيلية من اورشليم) ...وكان في مستهل الاخبار، أن وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس،دشّن اليوم معملاً للأسلحة الكيماوية في وحدة عسكرية قرب دمشق..
وقع الخبر في اذني كالصاعقة..لم أعرف ماذا أقول لرفاقي الذين لم ينتبهوا للخبر لأنهم من جهة،لم يعرفوا المعلومة من الرائد،ولم يدر في خلدهم أنهم جزء من خبر خطير من جهة أخرى.. 
ياإلهي..إجراء سري كهذا، و لايعلم به حتى (الموجودين) في المكان،و إذاعة العدو بعد بضع ساعات تضعه في صدر نشرتها..إنها كارثة!! 
خطر في بالي حينها امرين،
الأول أن أحداً من الحضور المشاركين قد سرب الخبر إلى إسرائيل، وأن عدونا يعرف كل تحركات(جيشنا) وأنشطته.
والثاني أن إسرائيل (لاتسمح) بتطوير أي سلاح لدى (أعدائها)،وها هو مفاعل تموز العراقي قبل بضع سنوات وقد دمرته طائراتها تماما، مثالاً حيّاً على مايمكن أن تفعله...
امتلأ قلبي بالرعب من أن يكون الهجوم القادم من إسرائيل، على مكاننا هذا اثناء وجودنا بمحاذاة هاتين الغرفتين الجربانتين..
قمت على عجل بلملمة أغراضي وقلت لرفاقي :انا بنصحكم تلاقو مكان غير هذا للمبيت به،أنا سأنزل من اليوم فصاعداً إلى بيتي بدمشق..
ويبقى الهروب عبر الأسوار، ومسير قرابة الساعة في أرض قاحلة للوصول إلى الطريق المؤدي إلى دمشق، و التعلق في باصات عابرة،وخطورة كمائن الشرطة العسكرية،عداك عن المخابرات،والاضطرار للمبيت عند صديق مختلف كل يوم أو يومين،أرحم من الموت تحت القصف..
و يبدو أن مخاوفي وظنوني كلها كانت مجرد أوهام..
فلا أنا اعتُقلت،ولا الأمن كان يبحث عني،ولا إسرائيل قصفت المعمل،ولا المعمل كان ينتج البسكويت - وليته كان-!.
بقي المعمل ينتج تلك المادة القاتلة حتى استُخدِمت بعدثلاثين عاماً، ليس على (آل إسرائيل)، بل على رؤوس أولاد علي الفندي وأهل داريا وسكان حلب وأطفال سوريا وأهلها الذين أرادوا دوماً #سوريا_حرة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أعتذرُ عما كتبت...

يوم سوري.. عصيب