يوم سوري.. عصيب

أواخر نيسان، وفي ذروة أيام اقتحام درعا_البلد وحصار باقي الأحياء و ضواحي المدينة..تخلص كثير من السوريين، من حذرهم، ومن هواجس الخوف من غول النظام ، بل قاموا بأفعال بطولية، ومنهم من دفع حياته ثمناً لهذه الجرأة.. 
.. 
بعد ظهيرة ذاك اليوم، دخل رجل الأمن الأنيق والوسيم إلى غرفة الضيوف، كان على وسطه مسدساً وجعب للطلقات تزنر خصره ، استقبله رجل البيت برفقته طفلته ذات السبع سنوات..
بدأت" الدردشة "الغير مفهومة الدوافع تأخذ شكلاً استفزازياً، والحوار الاتهامي لأهل البلد أنهم جزء من مؤامرة دولية وامبريالية عالمية و و و "طقم جاهز" من المصطلحات التي صُنِّعت لوصف من "يستهدفون" سوريا و قيادتها...
حاول بعدها أن يوجه الكلام للطفلة متصيداً:
_ بيِّك،. أبوكي، بيطلع بالمظاهرات يا حلوي.. 
فأجابت الطفلة بكل وضوح وبراءة :
_ بابا لأ. بس ماما بتطلع بالمظاهرة.. 
امتقع وجه الأب خوفاً،وود لو يخفي الطفلة، ابتسم محاولاً تبديد الحالة المتوترة.. 
_يعني الماما مَتْشارك بالمؤامرة عالدولة؟ 
كانت الأم في المطبخ القريب، يصل إلى مسامعها كل الحوار المستفِز، وكانت قد بدأت بتحضير قهوة الإستقبال، لكنها أطفأت النار واندفعت إلى حيث يجلس الضيف :
_مؤامرة شو يا خوي اللي جاي تسولفنا عنها.. 
إذا في مؤامرة بتكونو انتو اللي ساويتوها.. الناس طلعت سلمية و إلها مطاليب، بس انتو اللي ما بتخافو الله لا انتو  ولا رئيسكو.. 
أُخذ رجل الأمن بالهجوم الواضح عليه، وهو الذي تخيّل أن يكون مصدر رعب للآخرين ، فحاول الإفلات من الموقف .. لكنها أكملت هجومها :
_ قبل كل شي، انت منين خيو؟ 
_أنا من سوريا.. أجابها - بعفوية متقصدة - 
_أي كلنا من سوريا، بس من أي بلاد بسوريا انت؟ 
_أنا من محافظة اللازقية..قالها مؤكداً بلهجته و أكمل :
بس لازم تعرفي يا مدام ، انو هاودي الناس اللي بالبلد، ويلي بيطلعو مظاهرات، متل حضرتك ، هني ناس مضحوك عليهن، وعملاء لأعداء سوريا، لكان في  حدا بيخرب بلدو بايدو؟ 
_قول هالحكي لحالك، قولو لمعلمينك.. الناس طالعة سلمية و إلها مطاليب، وانتو اللي قتلتو الشباب وهم عزل طالعين بالصوت ، يعني انتو اللي قاعدين تخربو البلد، انتو ورئيسكو.. 
_انتبهي لكلامك يا مدام، هادا رئيسي ورئيسك.. آبيصير تحكي هيك.. 
استفزتها كلماته أكثر، فازدادت هجوماً:
_لاياسيدي ما بيشرفني يكون رئيسي هيك واحد قاتل وكذاب..وياسيدي ، اللي بيقتل شعبو خاين مش احنا اللي بنخون بلدنا.. 
كانت تتدفق وتغلي وتقذف الإتهامات في وجهه كالطلقات، وكأنها حظيت بغريمها في مكان معزول لن ينقذه فيه أحد، بينما كان زوجها يحاول أن يضبط "المعركة "التي اشتعلت في بيته، لأنه أدرك أن الكارثة ستحل عليه وعلى أسرته الصغيرة بعد هذا الكلام.. 
حاول رجل الأمن أن يحتوي الموقف ليستعيد المبادرة،و القدرة على معاودة الهجوم أو حتى الدفاع عن نفسه :
_طيب الأول ما بدكن تضيفونا فنجان قهوة عالقليلي..؟
انطلق زوجها بالرد مسرعاً :
_ طبعاً، اهلا وسهلا فيك، القهوة حاضــ....
قاطعته وهي لاتزال في أوج غليانها :
_ آسفين.. وما بيش قهوة، وتفضل من غير مطرود..
لملم رجل الأمن نفسه وحاول الابتسام، وصاحب البيت يكاد يفقد وعيه خشية العواقب من أذى اولاد الحرام هؤلاء..
_لا تواخذنا معلم.. بس هي منفعلة مشان اولاد قرايبنا اللي استشهدو.. و اهلا وسهلا فيك.. 
بينما هي وقفت منتصبة القامة تنظر للرجل بتحد واضح..
خرج وهو يوجه لها الكلام :
_بسيطة، راح نشوف شو بعد هالحكي.. 
_إيدك وما تعطي.. قالتها بحزم و اختصار. 
خرج رجل الأمن صافقاً الباب خلفه، بينما وقف زوجها كالمشلول يملؤه الرعب و المخاوف،لا يستطع لوم زوجته، فهي تقول مايشعر به، لكن ما قالته دون خوف ستكون عاقبته باهظة، ولن تمضي ساعة إلا و يكونا قد ضاعا في عتمة المجهول ..
...
... الرعب كان عنوان الحياة في سوريا لعقود، الخوف المتراكم لم يعتق أحد كباراً وصغاراً..
لكن سيل الدماء على مدى شهر في كل البلاد السورية، فرز النفوس بأعداد لا يستهان بعددها، وقدنفضت عباءة الخوف و داست رعب السنين..
لقد خلقت الثورة "شعباً "جديداً..
.... 
مضى ذلك اليوم وسط انتظار مخيف، الهواتف وكل الاتصالات مقطوعة والحركة ممنوعة على الرجال ، بمن يستعين في هذه الورطة؟ ما العمل؟ هل من مَخرج ؟ القلق ينهش قلب الرجل، حتى أنه أمضى ليله ساهراً متحفزاً لكل حركة خارج البيت 
وجاء اليوم التالي، وقد استسلم الرجل للنوم بعد أن هدّه الإرهاق والخوف، ويبدو أن مخاوفه هدأت قليلاً .. و أن احتمالات الأذية بدأت تتلاشى ، لدرجه أن المدام نفسها، نسيت ما حصل في بيتها في زحمة الأحداث الأهم والأكبر، من خلال الاخبار التي تصلهم عما يجري في البلدة و ميادين درعا..
بعد أسبوع من حادثتنا تلك، بدأت انفراجات في قرارحظر التجول ت لبضع ساعات،و كانت هي تتسوق وقد خرجت لتوها من محل "السوبرماركت" في الحي.. تحمل مشترياتها.. وإذ بسيارة أمنية تقف بشكل مفاجيء  قبالتها، و يترجل منها ضابط بلباسه الخاكي.. وقف أمامها.. عينيه في عينيها، وجهه يواجهها تماماً..
تذكرته، كان "ضيفها" منذ أيام.. 
أول ما انتقل إليه بصرها بسرعة هو مسدسه الذي كان بادياً على وسطه، فأحسّت لوهلة أن قلبها وقع من صدرها، لكنها تماسكت...
وقبل أن يخطر ببالها أي فكرة لأي شيء يمكن أن تفعله ، كان الشاب الوسيم يضرب قدمه في الأرض بقوة ويحييها تحية عسكرية و وجهه يكاد يعتذر منها .. وبسرعة  استدار وسط دهشتها و دهشة بعض المارة، ثم ركب سيارته وانطلق ليغيب في زحام الشارع وغباش دمعها وتمتمات دعائها....

(هامش :هي حادثة حصلت مع واحدة من أهلي.. في نيسان 2011 وهي اليوم تدعو للشاب بالنجاة و السلامة، أو بالرحمة والخلد... من مكان سكنها في ألمانيا )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أعتذرُ عما كتبت...