أعتذرُ عما كتبت...

أعتذرُ عما كتبت..
في زمان مضى وقد كنت شاباً يافعاً. حاولت أن أكتب قصة قصيرة عن شارع في مديني، و كان أكثر ما يلفت انتباهي في شارع "هنانو" هي ثلاثة أشياء، أولها و أضخمها مبنى "البنك" ،ولا أدري لأي البنوك يتبع، لكن كان اسمه البنك، ترتقي إلى مدخله بسبع درجات حجرية على طول المدخل، وهو ذو سطح قرميدي، كان شكله مهيباً وسط مباني السوق المتفاوتة، وثانيها تلك الحنفية الصفراء النحاسية على ناصية البنك مع شارع هنانو، إذ كانت تخرج من عمود اسمنتي يرتفع حوالي المتر وعند قاعدته مصرف للمياه التي كانت عذبة لا تنقطع، يشرب منه معظم من عبروا ذلك الشارع يوماً ما.. 
أما ثالثها، فكان مقهى الكمال،الذي يواجه البنك على الرصيف المقابل.. 
كان يجلس فيه الناس، بكل فئاتهم ،لأنه في وسط المدينة تماماً، وربنا كان المقهى الوحيد ، كانت له واجهة زجاجية على امتداده، وللدقة هي واجهة خشبية بفتحات زجاجية كبيرة ..مما يتيح لي أن أرى  وأسمع تفاصيل كثيرة بداخله، الأبخرة، وسحب الدخان، طرطقات أحجار النرد، أشم روائح التنباك الكثيف..اسمع قرقعة الماء في قوارير الأراگيل، ورنين كؤوس الشاي والزهورات.. صوت خربشة طي أوراق الجرائد.. 
لكن مع مرور الزمن، الذي أعقبته المعارك بين الثوار وجيش النظام، ذهبت معالم الشارع بما فيها المقهى الذي لم يحدث أن  دخلته قط، ولا أعتقد أن أبي قد دخله... 
أكثر ما علق برأسي من تلك القصة التي أعنيها، هو "مصطلح" اعتقدتُ يوماً ما أنني أنا من صاغه ونحته.. وهو مصطلح يصف الرجال كبار السن  الذين كانوا يرتادون المقهى، إذ قلت عنهم أنهم رجال "منتهو الصلاحية"!!.. 
اليوم لازلت لم أبلغ من العمر مبلغهم بعد.. لكنني أدركت سوء ما ينطوي عليه المعنى في الوصف..فأنا أدرك أنني ارتكبت شتيمة وضيعة بحق أناس أدرك اليوم أنهم هم ما يطلق عليهم "البركة" ،أو خزائن التجربة بل وربما الحكمة.. 
فكم اختزنت ذواكر هؤلاء من تجارب ودروس  في الحياة..استفاد منها أجيال اعقبتهم؟! 
كم كان منهم صاحب علمٍ غزير، أو مكانة عالية، أو حتى مناصب راقية، و ها هو اليوم قد ترك كل "مجده" ليقضي بقية العمر بين من يودهم ويأنس لهم.. 
كم كانوا سنداً لأبناء وبنات وقصّر و أرامل و و و..؟ 
كم كانوا "البركة"، وكان مجرد حضورهم في بيوتهم حتى وهم بحاجة إلى العون في كل حركة ، يبعث طمأنينة في نفوس محبيهم.. 
كم نبكي اليوم لافتقادنا إياهم ، و أن زمنهم كان الأجمل... 

لم أدرك كل هذا وغيره من أهمية هؤلاء "الطيبين" إلا متأخراً..
اليوم تخطر ببالي تلك الكلمة، وأخجل من أنني كنت أفكر هكذا ذات يوم.. فأنا أعتذرُ عما كتبت. 
لا تفرِّطوا بهم... 

"الصورة المرفقة تعبيرية" 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يوم سوري.. عصيب