نداء من فضاء بعيد لا أعلمه يناور راسي منذ الصباح ...
اقترب الليل على منتصفه حين دخلت إلى غرفتي في الفندق المطل على ساحة ساسين في بيروت، كان رنين الهاتف أيام العمل الطويلة شيئا اعتيادياً، و صوته لا يُحدث هذا الاحساس الذي أصابني عند سماعه الآن،
لعله خير،. قلت لنفسي،، رقم لا اسم يرافقه كان على الشاشة،. ترددت في الرد قليلاً، ثم وكي لا اندم بعد قليل،. فتحت الخط..
وبعد لحظة صمت:
_ ألو.. مسا الخير
صوت نسائي..
_ أهلاً مساء الخيرات
_چيف حالك يا السنافي..؟
احد لايعرف لفظ لهجتي الحوارنية.. وانهال طوفان الذاكرة من صوت يكاد يختفي إلى صور لا تحصى..
لحظات..
_ولك أمل.؟!. وينك؟ .. انتي هون؟
_ بقدر اشوفك ما هيك، انا في يونين، قريب بعلبك؟
_بكرة بكون عندك، ابعتيلي العنوان بالتفصيل..
كيف تدور بنا الحياة ويتناهبنا العمر، أكثر من ثلاثين سنة تجمعت في لحظات..
لم تكن ليلة عادية، لم أستطع النوم الا بعد طلوع الشمس لساعة أو أقل ، سارعت بعدها للاعتذار من زملائي لأنني سأتأخر عن الحضور اليوم، وغادرت الفندق برفقة السائق نزار باتجاه بعلبك..
قلما نظرت إلى الطريق في ذلك المشوار، وحسنا انه كان معي نزار ليقوم بمتابعة الطريق، صور أمل وأيام الجامعة تمر طازجة كأنها كانت منذ أيام.
كانت أمل بحركة خصلات شعرها، وتسريحتها الجذابة مع الهواء وهي تعبر أمام مقصف الآداب، هي الطاغية على ما عداها من الصور ، كنا متفقان على حياة مديدة، وعائلة وأبناء.. لكني كنت أحداً مزاجياً،و أكاد لا أطاق أيامها، سنوات من التسويف و انتظار أن تتحسن الأحوال ويتضح المستقبل و و و ..
جلست قبالتي في الحديقة الخلفية لقسم الفلسفة..و كانت عيناها مليئتان بالأسى، كنت أداعبها في مثل هذه الحالة، " دخيل هالعيون مثل عيون خالتي فاطمة.." فيخفت احتقانها و ترسل ابتسامة تبدد قلقي.. لكن يومها لم تفلح دعابتي في استجرار أي ملمح لابتسامة..
_سأتزوج..
قالتها والدمع لا يتوقف..
صار الهواء خانقاً حتى في سيارة نزار .. الذاكرة أيضاً لها أثر الواقع أحياناً..
تحاورنا طويلاً، وبكينا كثيراً، وفي النهاية.. قامت لتحضّر نفسها لاجراءات العرس، أذكر تلك اللحظة وهي تغادر الجلسة وقد بدت كنصف انسان يبتعد.. وكل شيء حولها كان ذابلاً ..
لم تفسد علاقتنا، فبرغم أني لم أحضر زفافها الذي كان ليلة وقف الحرب بين إيران والعراق.. وهو تاريخ لم أنسه، لكن مبادرة من إحدى الصديقات جعلتنا نلملم بعضنا بعد شهر العسل، انا وبعض الأصدقاء، لنبارك لها ولمحسن بزفافهما.
كانت ليلة أيلولية لطيفة، كنا نتحلق على سطح بيت محسن تحت عريشة عنب كبيرة، اهديتها يومها مجلداً ضخماً أذكر غلافه الأزرق وعليه رسماً لجبران "الأعمال العربية الكاملة" ...
تجاوزت ألم افتراقنا، وبقيت أطمئن عليها بين حين و آخر .. لكني لم أشأ أن ألتقيها ولو لمرة واحدة..
كانت أمل كلما تواصلنا هاتفياً تخبرني عن حياتها وعن ولدها الوحيد هاشم الذي أرسلتْ لي مرة صورته في آخر أيام امتحانه في الشهادة الإعدادية
_سيكون من الأوائل، هكذا كتبت مع الصورة ، وكان هاشم قد أخذ كل جمال أمل وبهائها، داعبتها يومها :
_مليح ما تجوزتيني كان هلق مناخيرو قد الكبة .. ضحكت وقالت: بالعكس مافي منك والله..
لكن بعد خروجي من البلاد انقطعت أخبارها تماماً، وكنت أحياناً أعتقد أنها صارت إحدى ضحايا الموت، لكثرة ما مر بنا من مصائب، أو لعلها كانت ممن وصلوا إلى شواطيء الغرب، لتأكل برودة الغربة بقية عمرهم ..
كيف ستكون أمل بعد ثلاث وثلاثين أيلولاً، ... و بعد عشرة من سنين الموت الذي لم يترك أحداً منا إلا وافترسه؟
_شو يا استاذ، من لما طلعنا من بيروت وانت مش هون، وقلقان، خير؟ سألني نزار ،
_خير خير، انشالله خير.. شو قربنا؟
_. ربع ساعة بنكون بالعنوان ، بدكياني ظل معك؟
_ أي.. لأ.. اسمع، وصلني، وغادر لكن ياريت تظل قريب، وبس أخلص مشواري بدقلك..
آخر الأخبار عن أمل نقلها لي ابنها الشاب الجميل( هاشم ).. حيث جاء يوماً لزيارتي في موقع التصوير في عملي على شاطئ طرطوس ، عرّفني على نفسه وكنت أراه لأول مرة، شاباً جميلاً وبهياً كانت فيه سمات الرجولة وقد أخذ شيئاً من أبيه العسكري،
أخبرني يومها أنه حصل على البكالوريا منذ شهرين بمعدل جيد جداً لكنه استطاع أن يقنع أمه أن يدرس هندسة الميكانيك، فهو يحب هذا التخصص كثيراً، تمنيت له التوفيق، لكن لفتني أنه أقنع أمه ولم يتطرق لأبيه..
_طيب و شو رأي القائد بو هاشم ؟ سألته مداعباً.. تغيرت ملامح الشاب وقال بصوت خفيض:
_بيي العمر إلك، توفى بحادث سير من سنتين..
كان خبراً سيئاً، لكن فرحتي بهاشم يومها وسعادته بلقاء الرجل الذي تحدثه أمه عنه دوماً، وتتلقط أخباره، لم تفسد الأجواء كثيراً بل أمضى اليوم كاملاً برفقتي ..
كانت البيوت ريفية و متباعدة في يونين، انها قرية نائية في البقاع، و إن كانت تبدو على بعض بيوتها الفخامة..
كان العنوان و العلامات الدالة على المنزل واضحة.... هبطت من السيارة أمام البيت وقد بدأ خدر يتمدد في ساقي، وقفت بعد ان غادر نزار وخفت صوت السيارة، كي أعيد التوازن إلى جسدي ... وبدأ الهدوء يملأ المكان..
بدأت الشمس بالإرتفاع قليلاً وهي تطل من بين بعض غيوم أواخر صيف البقاع..
الباب المعدني للبيت، بدا بارداً، وحوله أرض شبه فارغة.. فيها بعض شجيرات، وبجانب الباب شباك معدني، زجاجه مغبر قليلاً.. طيف تحرك خلف الزجاج، انفتح الباب لتطل امرأة لم أعرف سوى عينيها، كانت تشبهان عيني خالتي فاطمة ولا تزالان مليئتان بالدموع...
عاود الخدر ساقي.. وابتسامة أمل لم تبدد اختلاط ما أشعر به من كآبة وصدمة..وتتالت أسئلة ما بعد الضمة الخفيفة التي احتضنتنا....
كانت الأحاديث عن هاشم وعن العمل وعن سوريا ولبنان و الكوارث التي حلت بالناس،قد شغلتنا طوال الوقت،مما جعل أمل تعيد تسخين القهوة التي بردت أكثر من مرة ...
كانت أمل تهبط من باص الرحلة الذي أوصلنا مع ثلة من الأصدقاء إلى عين الخضراء.. حين رأيتها أول مرة..
كانت كالفرس الجموح.. فتاة بكامل الجاذبية والحيوية، كنت لحظتها أغنى أغنية لنجاة الصغيرة بشكل ساخر ومتعمد لإثارة الضحك، فكانت شرارة أول ابتسامة بل وقهقهة من أمل، و صلت لارتباط جرّ الكثير الكثير من الدموع فيما بعد.
المرأة الخمسينية التي تجلس أمامي لتهيل علي كل أوجاعها، لم تعد ملامحها ولا حيويتها ولا حتى صوتها يشبه تلك الأيلولية في عين الخضراء، ولا حتى تلك التي غادرتني في حديقة قسم الفلسفة ..
كانت أمل تبدو محطمة، لم يؤثر فيها موت زوجها الذي لم تكن علاقتها معه على وئام تام، ولا مرور السنين ، بقدر ما كان بتأثير هاشم ..
هاشم الشاب البهي، الذي انخرط في الحراك الطلابي في بداية الاحتجاجات ضد النظام وكان في السنة الرابعة ، فداهمت الجامعة جحافل الشبيحة والأمن لتضرب وتعتقل أي مشتبه بهم، غاب هاشم في أيلول من سنة 2011.. و جيء لأمل بكتاب وكراسة ولفافة مشروع عليها دمه..
بحثت واستجارت بأهل الأرض والسماء، اعمامه، اخواله،..استنفرت المعارف والأصدقاء...
_لاتسألوا عنه..
_ما عنا ابدا حدا بهالاسم
_اذا ماعليه شي ما تخافو، بس بدكن تطرو أيديكن شوي.....
_و إلكن عين تسألو عن هالعميل...
هذه بعض اجابات من فروع المخابرات والمعارف المشتركين..
سنة و سنة أخرى تمضي وأمل بانتظار أي أمل، إلا أن الطامة الكبرى حلت يوم أحضر لها شقيقها ظرفاً قدمه لها وهو يبكي، هذا ما تبقى من هاشم، هوية وخاتم الخطوبة وبعض أوراق كانت بحوزته ساعة اعتقاله،
لا جثة لهاشم، لا قبر لهاشم، لا وجود لهاشم
_ واذا بدكن مصلحتكن لا بقاحدا منكن يسأل عنو .. هكذا قال رجل الأمن الذي سلم الظرف للخال بكل برود...
أمل لم تستسلم في الفترة الأولى وبقيت تبحث وتسأل، وتستقصي، تريد أن تدفن ولدها على الأقل، أن ترفع له شاهدة على قبره...
لكن تهديداً واضحاً وصلها، أنها ستلحق بولدها إن استمرت بأفعالها..
وكانت ضغوط أهلها من باب حمايتها، جعلتها تغادر إلى لبنان، بعد أن يئست من الوصول إلى أي نتيجة..
كان خيارها أن تبقى قريبة من حدود البلاد، حاولت أن تساهم مع جماعات الإعانة و الإغاثة، في مساعدة المهجرين و الناس الهاربين من الموت.. كان لديها ما يمكن أن تعيش به في مثل هذه البلدة الصغيرة، وكذلك بعض ما تحصل عليه لقاء عملها..
أمضت خمسة أعوام ولم تكفّ عن السؤال بين الحين والآخر، ولا إجابات شافية.. لاشيء.
لكن للمقادير جولة، فتشاء أن يدق باب بيت الخال كائن أشعث، وجهه وجسده أقرب ما يكون لهيكل عظمي، كان بقية رجل لم يعرف الخال منه، سوى بريق العين ونبرة الصوت..
عاد هاشم من الموت.. كيف؟
فوضى السجلات و الجرائم، طمع المسترزقين على حساب آلام الناس، جعلت من هاشم أحد الناجين بعد اعتقال تجاوز الثماني سنين..
أخفى الخال الخبر عن أمل، ريثما رتب أمر خروج هاشم إلى أمه، كي لا يجعلها تعود وتتعرض للخطر ..
وصل هاشم إلى أمه .. وكانت أيام لا هي بالفاجعة ولا هي بالمسرة ..
كيف للسرور أن يعود و هاشم فاقد للرغبة في الحياة..
هاشم لم يفقد ذكاءه،لم يفقدعقله..لكن لا رغبة لديه في الحياة..
_ما خليت معه وسيلة، بكلشي تعلمتو وقريتو بحياتيى.. لم أفلح بشي معه.. فخطر ببالي أحاكيك، بعد ما عرفت انك ببيروت وجاي مشان شغل..
بعدين أنا بتذكر منيح قديش محبتو إلك، وكيف كان دايماً يحكيني بفرح
عن هاليوم اللي قضيتوه سوا بطرطوس، وهو بشوف فيك صورة راقية، فقلت لحالي ياريت تيجي.. بلكي بتقدر تساعدو يطلع من حالتو ..
قادتني أمل إلى غرفة متطرفة من البيت، هي ليست غرفة، هي شيء أشبه بالحمْام، مكان ضيق منتن ومعتم، إلا من فتحة لا تكاد تضيء شيئاً.. لا شيء في المكان سوى بقايا بطانية.
_ من لما رجع ما بيقعد هاشم غير بهالمكان ، لا بياكل ولا بينام ولا بيحكي ولا بيقول شي.. ولك يا أمي احكيلي عن وجعك، شو صار معك بالسنين، شو عملو معك؟؟
ما قدرت أعرف منه أي شيء ..
كلام أمل الموجوع، كان يمزق قلبي..
_وين هو هلق..؟
_ والله من الإيام السعيدة عندي، رغم خوفي عليه من هالجرود ، انه كل فترة بيضوج وبيطلع من هالـ "الزنزانة" ويمضي نهارة في الجرود حوالينا، وأحياناً بترجى شباب الجيران يدورو عليه ويرجعوه..
كانت أمل لا تكف عن سح الدمع طوال الوقت..
وأنا لا أكاد أصدق هذه الكارثة التي حلت بها..
_ هلق ممكن اطلع انا ادور عليه؟ لازم اشوفو.
_ هزت برأسها وكأنها ترجوني أن أفعل ..
_ طيب، اوصفيلي كيف اتحرك، وبمين استعين مشان أوصلّو ..
_قبل ما تروح، بدي خبرك بمصيبة أكبر ..
_ مصيبة غير يلي خبرتني بيه..؟
ازداد الأسى في وجه المرأة، ومشت أمامي،
_تفضل معي..
تبعتها، كان هناك غرفة قريبة خلف البيت تبدو كمستودع للحاجيات التي لا حاجةلأهل البيت بها، كان على الباب سلسة وقفل كبير، أخرجت أمل مفتاحه من جيبها و فتحت الباب ، فكان أمامي شكل وحشي من الأذرع المعدنية، لكل منها نهاية كأنها هراوة سجان، اتجهت امل إلى لوحة كهربائية صغيرة مثبتة إلى الجدار وضغطت أحد الازرار، فامتلأ المكان بضجيج خافت، وبدأت الأذرع المعدنية بالحركة العشوائية في كل الاتجاهات لكن حركتها تتمركز في منطقة وسط الأذرع، إنه اختراع مهول قاتل ..
فتحت عيني دهشة وقبل أن أسألها....
_ لم يُفقدوه ذكاءه،لكنهم حرفوا قدرة الابتكار عنده، فاخترع هادا الوحش، وعندما يختنق ويعز عليه النوم لأيام وليال طويلة، يغافلني ويفتح الباب، ليرمي حالو وسط هالهراوات اللي ما بتوقف إلا عندما يملأ صراخه البلدة كلها ويكون تدمّر جسمه، وامتلا بالجراح و الدم، فنحمله و هو بين الموت والحياة،نطببه وبيستفيق بعد أيام على ألم جديد..
تخيلت الأمر المرعب، لم أعد استطيع التنفس، خرجت من البؤرة الخانقة وقد بدأ العرق يتصبب من جسدي، وقفت وسط الفضاء لأسحب ما أستطيع من الهواء..
لحقت بي المرأة التي أدركت أنني أعرفها ولا أعرفها ..
_صرت اتمنى انه علواه مات في السجن..
كان وقع كلماتها موجع وكارثي..
أكملت تقول بصوت كأنه آخر الأصوات..
_بيصير إنو الواحد يرث طباع لواحد كان محتمل يكون أبوه؟
_شو بدك تقولي يا امل ؟
_ليش إنعمل فينا هيك؟ ليش موتونا ونحنا أحياء؟؟ ..
_هلق لازم أروح أشوف وين هاشم .
ابتسمت أمل، و اتسعت بسمتها إلى أن صارت قهقهة، وسال دمعها وكأنه آخره..
_مافي هاشم .. هاشم مش موجود.. هاشم ما طلع من الحبس، هاشم قتلوه اولاد الحرام.. ما عاد في شي.. أنا كل يوم بعيش هاد الكابوس،كل يوم بعيش هاي الحكاية ، هاد الوهم، شو مابدك سميه، بس اليوم حبيت اشركك فيه ...
قالت جملتها الأخيرة وهي تنظر في عينيّ لأول مرة منذ حضرت إليها، كان في عينها فراغ مخيف.. حتى دمعها لم أعد أراه. و زاغ نظري وتكسرت الأشياء في عيني و أنا أبتعد عن سرابِ كائن لم يعد حتى نصفه موجوداً ...
تعليقات
إرسال تعليق
نرجو كتابة تعليقاتكم و آرائكم بحسب رغبتكم ..ولكم كل الشكر