لفلسطين، سنبقى نغني

سنبقى نعيد الحكايات التي هي حجر أساس وجداننا ..
لفلسطين سنبقى نغني 🇵🇸 
........
.....
لم أكن اعرف سبباً لدموعي كلما سمعت أغاني الاعراس الفلسطينية ... !! واليوم يبدو أن السبب قد اتضح ...
صور  ترمح في ذاكرتي .. ووجوه لا أذكر تفاصيلها .. إلا أنها حفرت تماثيلها في وجداني ..
كنت طفلاً لا اتجاوز السادسة حين أفلت رجال المنظمات الفلسطينية من محرقة أيلول الأسود في احراج جرش وعجلون واربد الاردنية القريبة منا في درعا ..
 في مثل هذا اليوم ومنذ ثلاثة وأربعون عاماً، وفي "تشاركين" ١٩٧٠، كان الدم الفلسطيني  يعبق في ديارنا.. على فرشنا و في شرفاتنا ودفء بيوتنا التي شَرُفت بإيواء هذه العائلات الهاربة بأرواحها وأرواح أبنائها ، هذه العائلات التي كانت تبدو لنا أكثر "تحضراً" وأكثر "تمدناً" .. صبايا جميلات .. رجال كلهم حياة و إرادة برغم كل مواجعهم ومعاناتهم ،و كل ما فقدوه من غالٍ وعزيز ..
فبرغم كل المواجع التي سمعتها منهم او نقلاً عنهم .. فهم قد اصروا على الحياة وساروا في سهلها ووعرها ..
 واذكر أني في مثل هذي الأيام حضرت واهلي وابناء بلدتي ( درعا البلد ) عرساً لشاب لم ارَ أوسم منه الى اليوم _ قيل انه " طيار " فلسطيني _ رجل يشبه آلهة الاغريق ،ضخم الجسد وجميل المحيا، له شاربان اسودان رائعان ،أما عروسه فمضت سنين طويلة من حياتي حتى تمكنت من نسيان طغيان سحرها على مخيلتي ..
كانت ليلة سمعت فيها اجمل الاهازيج و المواويل الفلسطينية .. لم اكن ادرك حينها معنى الوجع الا اني رأيت يومها دموعاً تنساب مع الميجنا وظريف الطول وطارت الايام والسنين والعقود لادرك مايربط الغناء بالبكاء .. العرس بوجع الراحلين .. الفرح الذي يتلقطه الفلسطيني اللاجيء الهارب المقاوم ( الفدائي ) ، رغماً عن الحياة عينها .. 
 كان ( الفدائية) - وهي التسمية التي نطلقها على كل شاب ورجل فلسطيني حينها-كانوا يعقدون حلقة الدبكة التي  من الواضح انها تختلف عما تعودناعليه ،كانت اقدامهم تكاد تثقب الارض .. يكاد الشرر يتطاير من ارتطامها بالارض .. واكثر ما لفت انتباهي رجل قالوا  انه يدعى ابو فاتح. شاب اسمر له عيني صقر ..  ابتسامة لا تخبو .. وجسد يقدح زناد الارض ..ويحمل منديل رأس الدبكة...
تطير بنا السنون واكبر انا الصبي ابن السادسة وألتقي بعداكثر من عشرين سنة برجل يمر من امام بيت اهلي .. يسلم على والدتي بحرارة .. انظر الى الوجه الذي شاخ قليلاً ..: ابوفاتح..  عانقته ولم اصافحه .. وقفت كفي في الهواء .. لا كفَّ لأبي فاتح .. .. اجل لقد فقد نصف ذراعه بعد عملية فدائية  على تخوم الوطن .. ابو فاتح عبر وهو طفل الثامنة نكبة فلسطين ، وعبر حرب حزيران وخسرها وحرب ايلول وخسرها وحرب الجنوب وخسر كل معاركها .. وحرب ( الغفران) وخسرها وخاض حرب الاجتياح في ١٩٨٢ وخسرها وخرج مع من أخرج من بيروت .. وعاد الى درعا .. لعلها مسقط دمه .. خسر كل المعارك .. خسر كل الزعماء .. خذله الجميع .. حاول ان يعوض خسارته بأبنائه ..فقعد اواخر عمره يصقل تنشئة ابنائه.. و كان  ان ربى الفدائي والمعلوماتي والاداري .. ابناء بررة  ..
ابو فاتح اليوم ينهي  السبعين ولا ازال اراه في حلقة الدبكة يمسك منديلاً ويقدح زناد الارض ، وخالتي ام نزار تسح دموعها مع النساء وانا طفل السادسة ...
ابو فاتح غدا اباً لفاتح ولمحمود ونضال ورامي و و و وبنى بيتاً متواضعاً بالقرب من بيت اهلي ..لم يجن من الحروب والثورات ونزيف دمه المستمر عبر الزعامات والانشقاقات، لم يجن، سوى قوت يومه .. لكن" الله بيعوض" .. هكذا كان يعزي نفسه ويهديء غضبتنا لأجل نضالاته .. 
 ما ذكرني بهذه الاطياف الليلة هو الخبر الذي افجعني ، فعبر الهاتف .. احاول الاطمئنان على بيت اهلي والجوار .. جاءني الصوت مُحْرَجا ً / ابو فاتح استشهد ../ و/ رامي يتأرجح في سرير الموت /  القناص المتمركز في  أعلى مباني الحي، حاول ان ينهي الصراع العربي الاسرائيلي لصالح ابو فاتح .. فارسل له بطلقة لم تفلح كل الحروب التي خسرها في ان تنال من رأسه ،لم يفلح كل اعداء  ابو فاتح ان يخترقوا درع الحياة التي عاشها مناضلاً لفلسطين ولأولاده..
 الخبر هزني و بعثر وجداني.. فالعدمية غدت سيدة الامكنة في شوارعنا وبين حيطان بيوتنا.. 
ارجو ان لا ينسى قادة العدو ان يكرموا قاتل عدوهم محمد صالح الاحمد ( ابو فاتح )... 
وسيظل ابو فاتح ماسكاً منديل الدبكة .. يهز الارض بقدمه .. خالداً في وجداننا نحن اهل درعا - الفلسطينيون حتى عظم سوريا.. وياايها الحبيب رامي .. اصمد ولا تلوعنا اكثر .. ادعو و أصلي أن تتخطى درع الموت عائداً إلينا .. لترمي ناصية الجلاد .. يا رامي .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أعتذرُ عما كتبت...

يوم سوري.. عصيب