الناصية..

اتعبني طول المسير وحيداً في شوارع القاهرة.. 
مدينة أكثر من ضخمة على استيعابي واحتمالي و أنا القادم من مدينة كنت أعبرها مشياً من أقصاها إلى أقصاها بأقل من ساعة حتى لو كنت ثملاً ..
لحظة رأيته على ناصية أحد شوارع "وسط البلد" ، لفتني في البداية لباسه الحوراني الكامل.. 
كان يرتدي "الطقم العربي" وهو زي مستغرب في هذي الديار، اعتقدت بداية أن أضواء الشارع الليلية هي ما أوحى لي بشكله هذا، لكنني كلما اقتربت من الرجل، اتضحت التفاصيل أكثر. "الدشداشة" وفوقها جاكيت أنيق من نفس القماشة.. لا بل وكان يبدو تحت الجاكيت (صدرية) لها أزرار قماشية كروية واحدها تشبه حبة البنّ، تحيطها زخرفة حريرية تبدو بديعة بخطوطها المتقنة .. 
كان شكله بهياً جذاباً عمره كما بدا لي قد جاوز السبعين ،لكن شارباه الأبيضين الكثّين، ونضارة وجنتيه وإلتماعة عينيه ، و قامته المنتصبة، كانت تقول أنه رجل لا يشيخ  .. 
كانت "القضاضة" البيضاء على رأسه يثبتها "عقال" أسود داكن،وينساب طرفها الأيمن إلى وسط الرجل، والطرف الآخر كان ملفوحاً على كتفه الأيسر، أناقته، طلعته، رائحة عطر العنبر، كل شيء يقول أنه اشترى حاجياته هذه حديثاً، و ارتداها قبل دقائق.. 
استشعر الرجل أنني اقترب منه، فتهيأ لي بوجه مرحب. 
_السلام عليكم 
رد بصوت محبب واضح :
_وعليك السلام، هلا بيك.. 
_ منين الله محييك يا عم.. 
وأكملتُ كي لا يبدو سؤالي في غير مكانه :
_ والله لباسك وهيئتك، بتقول إنك سوري وحوراني بعد.. 
ازدان وجهه بابتسامة ورد بصوت مليء بالود :
_والله إنت اللي مبين عليك حوراني..
_إي والله حوراني.. من درعا البلد 
_يا حيالله بيك يا عمي..انتو إهل البيرق العالي.. 
_الله محييك، وكل الناس خير وبركة..
حديث ودود دار بيني وبين الرجل،. 
لم أدر بنفسي لا وأنا أفضي له دون أن أدري بمواجع غربتي..أبوح كما لو كان من أهلي.. 
َالرجل يستمع و ملامح وجهه تغريني بالقول أكثر :
تمر عليّ الأيام يا عمّ، وكأنها وحش يأكل من جسدي و روحي... أفتح دفاتري القديمة كي أتنفس شيئاً من هواء كنت قد خبأته بين وريقاتها منذ أيام دمشق .. توقَّفَت دورة الأيام عندي كسَجِينٍ رُمي في زنزانة و لم يعد بوسعه سوى الجري خلف ذاكرة تصارع الذوبان.. 
أتمعن في وجوه بناتي واستغرق فيها،علّها تطيل لي حبل الانتظار أكثر .. أقف، كل يوم، و وجهي للحائط كتلميذ معاقَب،كي أخفّف من إحساسي بذنب اقترفه غيري، لكن أَثَره أصابنا جميعاً.. 
أجهش بالبكاء مرات كل يوم، وأنا أطالع عن بعد، صور أهلي الغارقين، في الوحل والخوف والجوع، و أبكي من العجز.. 
كل ليلة عندما أتوسد مخدتي، أذرع ذاكرتي جيئة وذهاباً، استحضر بستان أبي، تفاصيل الأزقة، "شخبطات" الأولاد المشاكسين على جدران مدارسهم، شواهد القبور و طحالب نَمَت عليها ،، صخور الجبال ، حصى و رمل البوادي ، آثار وأوابد بلدي التي حفظتها حجراً حجراً، وهكذا.. حتى يسرقني نوم مليء بكوابيس الراحلين... 
طعامي أصبح مراً كالعلقم،يصعب عليّ ابتلاعه، بينما أنا أشاهد تقريراً عن أولاد يجمعون قوت أهلهم الذين يموتون بالحرب و الوباء من حاويات القمامة.. 
بحت بالكثير.. 
أخبرت الرجل بكل شيء.. 
قلت له أشياء لايقولها المرء حتى لزوجه، فقد ارتاحت له نفسي، وسرقني بهاءه الذي يشبه آخر صور أبي في ذاكرتي... 
أُسهبُ في الحديث، والرجل يواسيني بينما نحن واقفان تحت نور شاحب، على ناصية في وسط القاهرة.
_ هل سنَدفن أملنا في رمال البلاد البعيدة عن موطن ضحكاتنا الحقيقية يا عماه؟ 
_ هل سنُدفن نحن في أديم، لا يؤنس طريقنا إلى الآخرة فيه أهل و لا أحباب؟! ... 

شعرت بسائل حار يجري على خدي، و بتكسر الأضواء القليلة عند عتبة عينيّ.. 
مدّ الرجل يده بمنديل موشى بزخارف دقيقة وكان أكبرها لرسم على هيئة قلب.. 
_امسح دموعك - قال بمواساة بادية -.. و تعوّذ بالله من الشيطان ومن هالهواجس يا بيي .. 
أخذت المنديل و قد زادت كلمته الأخيرة من حرارة دمعي و غرقت في نوبة بكاء لم أستطع كبحها أمام المارة فغمرت وجهي في المنديل الذي ابتلت أطرافه و ملأ السواد عيني المغمضتين حتى هدَأْت.. 
_ يكثر خيرك يا عمّ...
قلتُ وأنا أمد يدي له بالمنديل ، لكنني انتبت أنني أمدها للفراغ..
لم يكن في الشارع الخاوي سواي، وبعض الكلاب الشاردة، وسيارة تعبر بهدوء من بعيد.. 
كانت الساعة الثالثة والنصف فجراً، وأنا واقف في شارع في وسط القاهرة أمسك بمنديل ليست عليه أي تطريزات ولا رسم لقلب.. و إنما أثر لقطرات مطرٍ قلما ينزل في هذه المدينة..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أعتذرُ عما كتبت...

يوم سوري.. عصيب