قهوة باردة

بعد الحديث عن بعض ذكريات أيام الصبا وشقاوتها، وقد استجرني لها ذلك الشاب الذي يؤلف حكاية عن أي شيء عابر.. كانت ضحكاتنا تختم حكاية شقيّة ، حتى تلاشت ضحكتي..
قد يكون ذلك بسبب قراري العودة إلى سوريا فالوضع بات مناسباً تماماً لهذه الخطوة، حيث أن المخاطر وموانع العودة قد تلاشت.
تباحثت أنا و زوجتي وابنتاي في الأمر ، فتقرر أن أعود وحيداً، كي أتمكن من تهيئة بيتٍ يصلح لسكننا في دمشق ، حيث أنني لا أملك بيتاً هناك ، ولا تتوفر فكرة مبدئياً للسكن في بيت أهلي في درعا..
إذن، فالخيار أن أستأجر شقة وأفرشها بما يتيسر، ريثما تحضر الأسرة ونكمل الفرش بما ترغبه(صاحبات البيت) لكن ذلك بدا خياراً قاسياً، إذ كيف سيدخلن بيت دمشق الذي طالما حلمن بالعودة إليه، وداعبت صورهِ الجميلة مخيلاتهن عن شكل غرف النوم والصالة وغرفة المعيشية و و و ؟!
إذن، لابأس، سأفرش البيت كاملاً..
تذكرت أن البنات لن يحضرن إلى دمشق مبدئياً، فدراستهن في الجامعة ستجعل مسألة قدومهن مؤجلة لسنة أو اثنتين على الأقل..
وبناء عليه ، سأستأجر شقة ليست واسعة، تكفيني أنا وزوجتي، و سنجهز غرفة أو غرفتين للبنات ريثما تحين عودتهن إلى الشام.
أجول في الشقة يملؤني الملل والشوق لفلذات قلبي، أفتح باب غرفتهما التي ترتبها أمهما كل صباح، كي تدبّ الحياة فيها، على حد قولها ،..
أتخيل كيف سيجلسن على هذه الأسرّة، كيف سيقفن أمام خزانة الملابس، ينتقين ألبسةً أنيقةً ، ويعلو صوتي مطالباً بالاستعجال قبل خروجنا لزيارة الأصدقاء، فقد تأخرنا كعادتنا عند كل زيارة، اللعنة على هذه العادة..ويأتيني صوت ضاحك من عمق المنزل بلهجة مصرية مرحة: إحنا بقينا جاهزين يا حج.. فابتسم صاغراً ...
أخرُجُ من تخيلاتي تلك وأعود إلى جلستي المعتادة على الشباك المطلّ على جزء من دمشق الكسولة ...
لكن في ليلة شتائية، وقد عصف البرد و الحنين فيها إلى ابنتي، و قد أكثرت من الشراب.. أنهضُ و أجري صوب غرفتيهما.. أبحث عنهما.. أفتح الخزانة الخاوية،أرفع غطاء السرير وأنا ي بلهفة:
- بابا.. يا بابا..
لا أحد يجيب الا الصمت ونهنهات بكاء زوجتي ..
أعود أجرجر جسدي المهدود إلى جهازي الجوال.. افتح مكالمة سريعة مع ابنتي الكبرى..
- الو
- اهلين بابا
- بابا.. تعالو يابابا.. تعالو يا عمري.. مشان الله تعالو......
تسحب زوجتي الهاتف من يدي التي تراخت بيأس، وتكمل المكالمة، والبكاء (العواء ) سيد المكان..
جسدي لا يقوى على الوقوف، فأتهاوى على مقعدي وأنا شبه غائب عن الوعي..
* * *
ليس بالأمر الجيد ما قمت به ليلة الأمس، أسرعت فور استيقاظي بإجراء مكالمة مع ابنتي و رأسي لاتزال تشعر بالثقل
- الو.. صباح الخير يابابا
- اهلين بابا، كيفك، انشالله أحسن؟
- منيح، يابابا، وأنا آسف على إقلاقك، بالكلام الذي قلته لك أمس....كنت تعبان شوي... بابا خليكن بدراستكن و انتبهوا على حالكم....
- بابا.. انا راح أجي عالشام..
-كِيْف؟؟!! ارتفع صوتي هنا أكثر من اللازم،مستنكراً
حتى أن صديقي الشاب الذي يجالسني قد سمعها وانتبه مستغرباً.
سألني : كِيْف شو استاذ ؟؟!
تنبهت إلى أنني قد رحلتُ إلى سبع سنين أخرى إلى الغد ،
-لاشيء يا صاحبي، فقد سافرتُ سبعاً، وأوجَعَتْني سبعاً، وهربتُ
كي أحمي ابنتيّ وكان عمر كبراهما سبعاً.. فلا عليك.
التقطتُّ فنجان القهوة المصرية الذي بردَ كثيراً ، ورشفت شيئاً مالحاً مع قهوتي الباردة..


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أعتذرُ عما كتبت...

يوم سوري.. عصيب