مشوار العتمة

مشوار العتمة ..

بتلويحة لهنا واقبال ,وكانتا تعبران حديقة كلية الاداب , غادرتُ انا ومنير البوابة الحديدية الصغيرة التي تؤدي الى بداية اتوستراد المزة ..
- هل نركب الى البرامكة أم نسحبها مشياً.. سألت منير الذي رحب بالسير على الاقدام , اذ أنه كان الخيار الأمثل لأسباب كثيرة  , فالجو الربيعي اللطيف أغرانا من جهة , وتوفير الاجرة سبب آخر ...
بقينا على الرصيف الأيمن بمحاذاة السياج المعدني للآداب, حيث تجاوزنا مقر إدارة التدريب العسكري الجامعي  وبدأنا نمر بالحرس المدجج بالسلاح والمعتمرين قبعات حمراء يقفون غير متباعدين لحراسة مبني القضاء العسكري ..
- لو يقطعو هالشارع مش أحسن للمواطنين ؟.. قلتُ بامتعاض
- لا هيك افضل .. بيظل أقرب من النزول الى ساحة الامويين وبعدها الإكمال الى الجامعة والبرامكة ..
رد منير بلهجة توافقية بينما نحن لا شعوريا نزلنا عن الرصيف الى عرض الشارع, كي نبتعد عن الحرس الذي قد يستفزنا بأي كلمة أو تصرف ودون اي سبب ,فقد لا يعجبه تسريحة شعر احدنا , او يغار من لباسنا المدني أو أو .. المهم أننا بتنا نسير في عرض الطريق ..
نقترب من ذوي القبعات الخضراء والذين يبدون أكثر لطفا وأقل شراسة .. إنهم حرس مبنى الإدارة السياسية الذين لا يمانعون أحياناً في أن يمشي المواطنين على الرصيف المحاذي لسور الإدارة المرتفع كسور السجن .. كان على الجهة المقابلة محطة وقودقديمة, و كانت تتوسطها شجرتي كينا كبيرتين تصنعان ظلالاً تخفف من لهيب أيام القيظ للمنتظرين لباصات النقل الداخلي الذاهبة الى المزة, وللمواطنين المنتظرين للمكروباصات الشحيحة المتوجهة عبر اتوستراد المزة الى معظمية الشام وقطنا والقنيطرة ,وكانت هذه المحطة ( الكازية ) تحاذي سور محطة عسكرية مسورة , تزود سيارات القصرالجمهوري وضباط الامن ومن لف لفيفهم بالوقود المجاني ..
عند نهاية سور الإدارة السياسيةحيث كنت انا ومنير تصادفنا بخالد ذيبان زميلنا في الدراسة .. توقفنا للسلام عليه .. فنبهنا الحرس- أبو طاقية خضراء - بلطف لكن بحسم :
- ممنوع الوقفة هون يا شباب ..
-ماشي ولا تآخذنا , طيب يا علي , نراك غداً في الكلية ..
تركنا علي وتابعنا عبور الشارع العرضي الذي يدخل يميناً الى دمشق المرعبة .. حراس بملابس مدنية لكن جعب ذخيرتهم ليست كمن مررنا بهم , انهم الأكثر جاهزية للهجوم والقتال أو أي أوامر تعطى لهم .. كانوا بأيديهم يفتحون ويغلقون بوابات وحواجز معدنية, لها عجلات صغيرة , و تستطيع أن ترى خلفها فروع أمن ومقرات مخابرات وإدارات عسكرية ما أنزل الله بها من سلطان , لا نطيل النظر في ذاك الاتجاه ,نعم هكذا تعودنا كلما مررنا من هنا ..
يتناقل الناس أخباراً وحكايات أن تحت هذه الأبنية المرتفعة والمكتظة أقبية بطبقات هائلة .. مليئة بالمعتقلين من كل الأصناف والألوان والجنسيات ..
-انشالله ما بتزور هالمنطقة لابخير ولا بشر يامنير .. أداعب منيربصوت خفيض , فيدفعنيبكوع يده كازاً على أسنانه :
- امشي وانت ساكت يستر على عرضك ...ضحكة خفيفة من كلينا وقد صرنا على موقف باصات النقل الداخلي التي تتوجه لداخل المدينة , وهذا الموقف طالما كان مكتظا معظم الاوقات ..
موظفين ومراجعين , كبار وصغار .. وكثيرا ما ترى جنسيات مختلفة كالأفارقة وآسيويين وحتى أوروبيين ووو , وقد يكون بين هذا الحشد أيضا متلصصين ,وقد يكون بينهم مفرج عنهم .. أو سجانين وجلادين عائدين الى بيوتهم بعد نوباتهم القذرة , و مؤكد ان بينهم أمهات وأخوات وآباء لم يستطعوا الحصول على موافقة أمنية لزيارة عزيز غيب عنهم أو لايعرفون مصيره...المكان يحتما أي حالة تخطر في البال فهوعلى مدخل ومخرج هذه القلعة الأمنية المرعبة والتي تحكم منها البلاد .
اقترب منير من الكشك الثابت وشبه الأبدي والذي تزين زجاج واجهته المتسخة صورا للتركية سيبلكان والمغنية سهام ابراهيم وكاسيتات لإبراهيم صقر وفؤاد غازي وأبوعلي التلاوي والعراقي حسين نعمة و و ..
اشترى علبة سجايرعليها رسوم مضلعة كحلية وزرقاء ,وكتبت كلمة (cedars)عليها بلون ذهبي..
مزق منير الغطاء الورقي لعلبة السجائر المهربة من لبنان بالمصادفة عندما كنا نعبرمن أمام مدخل مرآب إدارة الجمارك العامة , وهو مدخل يعتبر بلا حراسة مقارنة بما سبق. .مد منير علبة السجائر باتجاهي يضيفني. فشكرته:
- لا حبيبي .. أنا من جماعة الُثقيل .. الحمراء .. تعال الى حيث النكهة, أجود انواع التبغ القاتل ..قلتها ساخراً بصوت كمذيعي الإعلانات , وضحكنا بينما كانت سيارة بيجو – استيشن - تتوقف على الرصيف المقابل لنا أمام مبني الأمن الجنائي ويهبط منها عناصر مسلحين يدفعون شخصين ضخمين مقيدان ( بكلبشات ) لها سلاسل معدنية ,ثم غابوا داخل المبنى عندما انتبهنا أننا وصلنا الى ساحة الجمارك , توقفنا قليلاً لتنتهي موجة السيارات الآتية من جهة الأمويين , ثم عبرنا الساحة لنمر بجوار تلك اللوحة التي تثير الضحك والمنصوبة في وسط الميدان وفيها توصية من أقوال (الرئيس المناضل حافظ الاسد)  أنه اذا ما رأينا سائقاً يخالف قانون السير فيجب أن ننظر إليه بازدراء .. وكأن ذلك السيد الرئيس لايعرف أن رجاله هم الوحيدين الذين يخالفون قانون السير , أما نحن فلا نستطيع أبداً ,ومعنا شرطي السير ,أن ننظر تلك النظرة التي يطلبها منا ..  
هنا انتهت المنطقة المدججة بالسلاح ودخلنا المنطقة التي يختفي بها السلاح نسبياً.. فنبدو وكأننا ندخل الى حيث الحياة والجمال ..
عبرنا الشارع الى جهة الرصيف الشمالي المحاذي لسور كليتي الهندسة المدنية والعمارة .. حيث كانت الشمس الدافئة تشجع على انتشار الشبان والصبايا في الساحة أمام المبنى المختلف عما حوله وهو مبني كلية هندسة العمارة, فمنهم من يتدربون على أدوات المعايرة المركبة على حواملها الثلاثية وتبدو مثل كميرات التصوير , ومنهم من يبدو عليه الهيام والغرام .. و آخرين يبدو العبث واللهو هو طريقة حياتهم ..كنا نتبادل أنا ومنير عبارات الإعجاب عن بعد بل نستغرق في اعطاء المواصفات لفتاة لفتت انتباهنا , إنه الجمال  الذي نفتقر إليه في كلية الآداب ..وبالمقابل كان طلاب الهندسة . يهرعون الى الآداب لسهولة وجاذبية الأجواء فيها, وجمال فتياتها ... يبدو لا أحد يرضى بنصيبه يا أبو النور ..
انتبهت لصوت حسام وصديقته فاطمة يسيران عكس اتجاهنا على الرصيف المقابل : حجي !!
صرنا نتخاطب عن جانبي الشارع المؤدي من الجمارك الى البرامكة ..حيث صاح على طريقة الفلاحين
- حجي ...وين يا مهون ؟؟
- والله عالصيد .. أجبته بنفس الطريقة وأنا أشوّح بيدي ,وأكملنا نكتة الطرشان
- والله فكرتك رايح عالصيد ..
ابتسامة فاطمة الخجولة من صوتنا المرتفع في هذا المكان ازدادت وهي تمسك ذراعه ليخفف من الصياح , فأحببت ان أنهي حرجها ..
- وين طريقكم ؟
- عالمدينة الجامعية .. أوصّل هالأمانة ( يقصد فاطمة) وبعدين فاضي .. عندك شي ؟
- مر لعندي المسا ..امرق لعند منى  وجيبها معك ..
-ماشي حجي .. سلام ..
كانوا يخاطبونني بالحجي لكثرة مناقشتي في أمور الدين, لا أكثر ..
سألني منيرعمن تكون الفتاة التي برفقة حسام , الذي سبق و التقاه أكثر من مرة في بيتي, فشرحت له قصة الحب التي تجمعهما منذ سنوات ويبدو أنهما على نية الزواج.
وصلنا باب كلية  الهندسة حيث محرس للحرس الجامعي..تجاوزناه الى الرصيف الآخر حيث كافتريا الوليد التي يتجمع فيها رفاقنا الفلسطينيين.. فصاحبها ابو الوليد رجل فلسطيني خمسيني , شكله يوحي أن له تاريخ نضالي قديم ..كان كثيرين من رواد الكافيتريا لا يدفعون ما عليهم فورا, بل بعد ان يأتيهم الدعم المالي من أهلهم سواء داخل البلد او من الخارج ..كان ابو الوليد قريبا من الجميع ,و كانت الأجواء في تلك الكافيتريا عائلية وسياسية وكانت كثير من الأفكار والقضايا تناقش هنا , فتعلو الأصوات ويعلو الصراخ والقبضات بين ابناء التنظيمات المختلفة والمتخالفة الذين يتجمعون هنا, وتهدأ الخلافات برجاءات أبي الوليد و"مونته" على معظم الحضور ..
كان العديد من الطلبة لا يدخلون إلى المحاضرات إلا للضرورة ,أو عند اقتراب الإمتحانات .. وخصوصاً أولئك الذين أمضوا في الكلية سنوات رسوب جعلتهم من "العتاولة" , حتى أن منهم من صار عمره أكبر من أعمار المحاضرين ..
المكتبات التي تحيط بالكافيتريا تغطي واجهاتها أوراقً تعلن عن تخفيضات في التغليف أو التصوير أو النسخ أو تأمين بيع المشاريع الجاهزة " لمن يرغب".. وعروض أدوات يحتاجها طلبة الهندسة ..
نثرثر أنا ومنير مع بعض الرفاق .. ونتابع طريقنا بين سلام من هنا وتحية من هناك , ونعود لتجاوز الشارع ابتعاداً عن الأتربة والغبار التي تنتشر من الورشات التي لا تكاد تنتهي في المنطقة المقابلة لكلية العلوم – أصبحت فيما بعد كلية الاقتصاد و التجارة – نسير مع  سور كلية العلوم وبعدها نتجاوز الكشك الذي أمامها.. ليبدأ الرصيف الأعرض في كل البرامكة.. وإن كان ليس طويلا فهو يمتد من مدخل كلية العلوم حتى تقاطع الجامعة\ برامكة  , أي أنه يمتد على طول كلية الحقوق والشريعة فقط , وهو المبنى الأساسي لجامعة دمشق..
صار مبنى وكالة سانا يعلو فوقنا على الجهة المقابلة , وتكاثر الباعة الذين يبسطون بضائعهم المهربة من لبنان على طول الرصيف بين الأكشاك المتقاربة على طرفي الشارع , والتي تكاد كلها تبيع ذات السلع من لوازم العسكريين كالقبعات والرتب , وبعض القرطاسية طبعاً بالإضافة الى ركن الكاسيتات التي تتحف المارة غالباَ بضيج أصوات أصحابها التي لا يجرؤ أحد على الاعتراض عليها..
وصلنا عند ناصية الجامعة حيث يمتد حبلين مربوطان بجدار الكشك من جهة وبحديد سور الجامعة من الجهة الاخرى , نُشرت عليهما الصحف اليومية السورية الثلاث ,والباقي كانت صحفاً ومجلات لبنانية حصراً.. تصفحنا العناوين , واشتريت العدد الاخير من بيروت المساء ,وسألت منير عن وجهته القادمة فقال أنه يجب أن يعود الى البيت الآن .. إذن أنا سـأتوجه الى التكية السليمانية لأداعب البط في بركة الجامع قليلاً واقرأ ما تيسر في بيروت المساء .. غادر منير باتجاه مبنى سانا .. وعبرت الشارع المليء بالفوضى للرصيف المقابل باتجاة مشفى التوليد .. اصطدمت ببعض الأجسام المسرعة في عبور الشارع إلا أنني عندما هممت باعتلاء الرصيف رفعت قدمي لأتعثر بجسد انسان جعلني أهوي بكامل جسدي .. فأمسكتني العديد من الايادي قبل ان اصل الأرض ...صرخ أحدهم بذاك الذي تعثرت به مؤنباً :
- شو باك يا زلمة , مانك شايفوعم يمشي ؟؟
رد ذلك الرجل وكأنه يعتذر : والله ما عاد أقدر أكف رجلي أكثر .. اكثر من ساعة وأنا كاففها , مديتها من الوجع ففشكلّتْ الأستاز ( يقصدني ) ..
فك أحدهم العصابة عن عينيّ بعدما قلت:
-خلص خلص .. معليش بيكفي لهون اليوم ..
فركت عيني المجهدتين من أثر العصابة والإغماض , لأعود لغرفة السجن الصغيرة , وبدأت استرجع بصري أكثر فأكثر , وعاد السجناء كل الى مكانه فقد انتهت حصة اليوم من اللعبة..
لعبة تواطأ السجناء معي على الخروج الى شوارع دمشق كل يوم برغم بوابات وجدران وحراس المعتقل ,فيفسحون لي في المكان المكتظ العفن ممراَ صغيراً لأتمكن من المشي فيه وأخذهم وهم مغمضين معي الى كل تفاصيل أي مكان يحبون "الذهاب" إليه , فأسرد ما يجود به خيالي وأنا معصوب العينين , مفتوح الروح ..
عاد الصمت سيد المكان, الى أن جاء صوت أحدهم من عمق الزنزانة:
-  بكرة وين راح تاخدنا يا استاذ ؟..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أعتذرُ عما كتبت...

يوم سوري.. عصيب