كرز مشوي
كرز مشوي..
أحياناً تأتيك الأمنيات في غير أوانها، وتحملك الأقدار إلى فضاءات مشتهاة في أوقات أبعد ما تكون عن التوقيت المناسب،فتبدو وكأنها أتت لتكون عقاباً ,لا تحقيقاً لرغباتنا...
لطالما أحببت أن أغادر محيطي الضيق المحدود، وأذهب في رحلة إلى لبنان السحر , فتلك كانت سقف أحلامنا.. ذلك الحلم الذي تسلل إليّ مما قرأت عنه من السياسيين والأدباء والشعراء وحكايا الفنانين والنجوم، سمعت صوت لبنان الحلم في أغاني فيروز و الصبوحة ، شممت عبق جباله وبحره في صور المجلات لصبايا الحمرا و الأشرفية و تلفريك حريصا..
تقت إلى فضاءات الحرية فيه, أردتها لتكون جزءاً من أحلام فتى متمرد, دخل الثامنة عشر قبل خمسين يومًا فقط..
وها أنا أقطع جبال الشّوف مشياً على الأقدام عائداً إلى دمشق، عابراً بلدات البقاع معلقاً في رقبتي يدي اليمنى التي خيطت وضمدت على عجل في مشفىً في بشامون ،ذلك إثر إصابتي في معركة مع رتل دبابات "اسرائيلية" كنا قد كمنّا لها في أحراش الدامور المرتفعة عن طريق الجنوب الموازي للبحر .
كانت الأجواء أمام غرفة العمليات في المركز الطبي مضطربة ,وأنا ممتليء بالخوف من اقتراب القصف و القوات الإسرائيلية أو حلفائها.. لكني كنت استغرب هدوء الطاقم الطبي وكأنهم اعتادوا مثل هذه الظروف..
أحدهم نصح صديقي فريد الذي قام بإسعافي بمغادرة المشفى بسرعة وخصوصاً أننا سوريون , والقوات المهاجمة تقترب أكثر ..
قد يكون وجود فريد معي في تلك اللحظة عامل أمان بالنسبة لي, فريد الذي غادرت درعا واياه وزهير قبل أيام للمشاركة في صد الاجتياح الإسرائيلي في الوقت الذي تراجع عديد من الأصدقاء عن قرار التطوع ، غادرنا درعا إلى دمشق، وبعدها دخلنا الأراضي اللبنانية مع متطوعين كثر اجتمعنا بهم في مقر الجبهة الشعبية في مخيم اليرموك بدمشق , أمضينا تلك الليلة في أحد معسكرات الجبهة في منطقة بر الياس البقاعية,بعد أن أبدلنا ملابسنا بلباس عسكري ,ووزعت علينا الأسلحة الفردية والمتوسطة،و طلب منا انتقاء أسماء حركية، كل حسب رغبته.
في صبيحة اليوم التالي غادرنا المكان الى منطقة الجبال المطلة على الناعمة والدامور، لم يكن لدي أي معرفة بتلك الجغرافيا وأسمائها، إلا أن رفيقاي اللذان سبق لهما أن انخرطا في العمل الفدائي في لبنان، هما من ساعدني و زوداني بهذه الخبرة….
كان علينا مغادرة المشفى بناء على تلك النصيحة ,وذلك بالاتجاه إلى عاليه، كونها أكثرأماناً وفيها مركز للعناية بالجرحى، وفعلاً أمنوا لنا سيارة كانت تتسلق بنا طرقات جبلية يغطيها الغمام أحيانا في ذلك اليوم الحزيراني القائظ، مما جعلني أرى سحر امتداد لم يسبق لعيني ان رأته، أحياناً عند التفافنا في طريق ملتوية, يختلط المدى بلون البحر وخضرة الجبال, وتأتي انفراجة فسحة سماوية ليتسلل الى القلب شعور بالقداسة تجاه هذه الأرض.. وجدتني في لحظة وقد سقطت دموعي حزناً على كل هذا الجمال, فتصورت أن الحرب التي بدأت منذ أيام ستحيله إلى دمار وخراب ..
وصلنا إلى مبنى فخم متعدد الطبقات, امامه جلبة كبيرة وحركة متوترة , كان فيه الكثير من الجرحى ,قيل أنه فندق تحول الى مركز للعناية بالجرحى , أوصلني فريد وغادر على عجل ملتحقاً بالمعارك..
كانت واجهات أبهاء المكان الواسعة لا تزال تحتفظ ببقايا أناقتها , كانت بكاملها من البلّور الذي يعطي للعين فسحة رؤية ذلك الإمتداد الذي طالما تغنى به الشعراء و المغنون من قلب مدينة السحر والفخامة عاليه، لكن كيف يمكن ان تستمتع بأي شيء والألم والقلق والخوف من أصوات الطيران والانفجارات وأنين الجرحى حولك ؟ كيف و بين دقيقة و أخرى تأتيك أخبار متضاربة عن اقتراب الصهاينة إلى الشوف.. بل إنهم دخلوا بعض البلدات وهاهم يقتربون من عاليه..!!
أنباء عن "أسر الجرحى" .. و "الإعدام الميداني لمن هم من غير الفلسطينيين"، " المعارك يقودها السفاح شارون .." هكذا كان يتداول القادمون الذين يغطيهم غبار المعارك إلى الفندق ,والذي يشرف على خدمة الجرحى فيه طواقم متطوعين و متطوعات يعملون برتابة كأنهم اعتادوا على كل شيء، كان التوتر لديهم في أدنى حالاته.
قد يكون أداؤهم هذا هو ما ادخل قليلاً من الهدوء الى نفسي .حتى أنني في لحظة تركت العنان لمخيلتي أن علاقة حب ستربطني بإحدى المتطوعات الجميلات والتي ستتعاطف مع حالتي , لا بل ستتعلق بي .. وسنفكر معاً في اكمال حياة تكون حكايتنا فيها حكاية يتناقلها و يقرؤها الفتيان الذين يتعلمون جمال الحياة …
قد يكون هذا "التهويم" آت بفعل تلك الحكايات التي كنا نقرؤها عن الحب في زمن الحرب ..
في اليوم التالي وصل فريد أيضاَ بحالة إسعافية حيث أنه سقط من مكان مرتفع أثناء المعركة.وخيراَ أن إصابته كانت دون كسور وإنما مجرد إعياء شديد وآلام رضوض كبيرة...لكن لا أخبار عن زهير ..
تزايدت بعد ظهيرة اليوم أعداد الجرحى وبات القلق أكبر حتى على المتطوعين .. يبدو أن الأمور تأخذ منحى أكثر سوءاً, وجاءت التعليمات بإخلاء المكان , فكان علينا انا وفريد والآخرين أن نغادر المكان إلى مكان على طريق عاليه سوق الغرب.
ومن مصادفات العمر, أنني عدت إلى نفس المكان لأصور فيه مشاهد لمسلسل "حلاوة الروح" بعد اثنين وثلاثين عاماً، وكان لايزال خرباً كما كان عليه يومها، بل زادته السنين والإهمال خراباً.. ودخلت إلى تلك الفسحة الصغيرة التي أعتقد أنها كانت حمّاماَ في ذلك المكان، ولم استطع السيطرة على مشاعري بعد مرور كل هذه السنين ، فبكيت , بكيت عمراً ورفاقاَ لم أعد أدري أين أضحوا وما فعلت بهم الأيام, فزهير كان ذلك اليوم هو آخر عهدي به حتى يومنا هذا ,ولا أخبار عنه سوى إشاعات متضاربة عن مصيره…..!
أما فريد فقد أخرج مع تهجير الحركة الفلسطينية من بيروت , فتونس , فاليمن , فتركيا , فأوربا , ليتزوج ويصبح تشكيلياً مهما ًليعيش في أوربا .. كأوربي خالص.
هنا أمضيت في هذا المكان العفن ساعات مريرة من الألم والخوف قبل أن تبدأ موجة قصف الطيران الحربي تقترب أكثر.. وكان ليلاً صيفياً بارداً مثل أقسى شتاء مرّ في حياتي، لعل حمى التهاب جراحي ورطوبة أجواء الجبل (المصيف) قد تضافرت لتجعلني أرتجف كريشة عصفور رغم أنني ملتحف ببطانية جديدة وناعمة. إلا أن الخوف من القادم، و الاضطراب الذي عم المكان والألم الذي لاينقطع ,جعلني أحمل سلاحي وكان مدفعاَ رشاشاَ نوع bks ، لم يغادرني طوال هذه الرحلة كلها ، حملته واتكأت على فريد، أو لعله هو من اتكأ علي لست أدري فقد كان الإعياء يزداد عليه .. مشينا وراء الذين مشوا.. وعندما سألنا إلى أين نتجه ؟ ، قيل ..اتجاه بحمدون الأقرب إلى البقاع اللبناني و الحدود السورية..
المسير في ذاك الهزيع الأخير من الليل كان مرهقاً، مليئاً بالخوف.. نحن نضرب خبط عشواء،.كان كل صوت يخيفنا، كل انقشاع للضباب الجبلي يفتح أمامنا قلقاً أكبر .. فمعظمنا جرحى , وقلة من لا يزالون يحتفظون بالسلاح وبعض الذخيرة.. كانت أعداد السائرين تتناقص مع مرور الوقت، منهم من يختارون الانعطاف باتجاهات أخرى ومنهم من لم يعد قادراً على السير فارتمى جانب الطريق بانتظار المجهول..
مرت ساعات على هذه الحال, والجوع والخوف والألم صارت على أشدها.. وبدأت خيوط الفجر تخط الأفق أمامنا بلون دخان رمادي، هل نكمل ؟ أم نقف حتى ينقشع ضوء الصباح لنتبين ما يمكن أن نختار ؟ فسارع "مروان" الذي لُفّت كامل رجله اليمنى بجبيرة كبيرة وكذلك بضماد على كامل رأسه،وقال بلهجة العارف الأكيد " إننا نمشي بالإتجاه الصحيح وقد اقتربنا من بحمدون... "
كانت أصوات المعارك تبتعد أكثر كلما تابعنا المسير , وهدأت حولنا الأجواء أكثر ..
بدأ ضوء الصباح يتزايد، وهذا ما أشعرني لأول مرة بالاطمئنان، بعد كل ما فات. إلا أن ذلك لم يطل، حيث أن مروان هذا قال :" يجب أن نكون حذرين في هذه المنطقة، فهذه المنطقة فيها أعداء كثر قد يظهرون لنا في أي لحظة.. " وأكمل .. " إن في كل بيت هنا سلاحاً يقضي علينا جميعا " , خصوصاً أننا بقينا لا نزيد عن العشرة أشخاص..
وأنا الأمي بهذه الجغرافيا وطبيعة هذا المجتمع، بدأت أرى المكان وقد تناثرت فيه الأحراش والفلل والمباني التي لا قبل لي بمثلها من الترتيب والهيبة ، كان كل منزل يعلو أسقفه القرميد الأحمر وتحيطه الأسيجة المرتبة, تعلوها متسلقات تضفي جمالاً بلا حدود على المكان .
اقتربت طريقنا من أحد البيوت.. وكان الصمت قد لف المكان المترامي , فزاد في وحشة الأجواء،أو لعلي لم أعد أسمع سوى الهدوء،
منيت نفسي لو استطيع عبور السياج المنخفض للحصول على بعض ما يمكن أن يؤكل..، اقتربنا أكثر من السياج بهدوء وكمنّا نخطط كيف السبيل إلى مخاطبة أحد بشكل آمن، فالمكان تقف على مدخله سيارتان تبدوان غير مهملتين، وهذا يعني أن المكان مأهول..
فجأة ارتفع صوت عواء كلب حراسة ضخم.. وبدأ يعوي باتجاهنا ، زاد ذلك من توترنا لدرجة أن فريد فكر في إطلاق النار على الكلب لإسكاته، ناسياً أن إطلاق النار قد يجلب علينا الكارثة.. لم يطل الأمر، فقد ظهر رجل عجوز يقارب السبعين،. كان أصلعاً قصير القامة و ممتليء الوجه والجسد..ظهر وقد خاطب كلبه بأن يهدأ..وعندما لم نر غير العجوز، تشجع شابان ووقفا ليخاطبا الرجل من خلف السور ويطلبا منه بحذر أن يمدنا بالطعام , أياً كان..
كانت ملامح الرجل مرتابة، ويبدو انه لايوجد من يستقوي به،. لذلك ورغم إنكاره أن لا طعام لديه و تبرمه من وجودنا قرب بيته ،إلا أنه قال "سأرى مالدينا ". دخل الرجل إلى داخل البيت الكبير ذي الطبقات الثلاث، بقينا متحفزين لأي طاريء , حتى ظهر الرجل يحمل كيساَ وكانت امرأة عجوز تطل من خلفه، وقدم لنا بعض الخبز و حبات من البندورة و البطاطا المسلوقة..
كانت "وليمة" على الماشي، حيث توازعنا الطعام و تابعنا مسيرنا بعد أن شكرنا الرجل و طلبنا منه ارشادنا إلى بحمدون بأقرب الطرق .
وصلنا بحمدون قبيل الظهيرة وكانت طرقاتها لا تعاني من وحشة ما مررنا به، كانت حركة السوق والشوارع شبه عادية , و إن كانت قليلة، وكان بعضنا قد انفصل عن المجموعة وبقينا أربعة فقط.
سألنا بعض المارة عن مقرات للحركة الوطنية أو للمنظمات الفلسطينية متحاشين الاقتراب من نقاط الجيش السوري المسيطر على هذه المنطقة، فقد فهمت من رفاقي أن الجيش أو المخابرات سيزجون بنا في السجن فور العثور علينا، فنحن في نظرهم حملة سلاح دون إذن من سلطات بلدنا التي هي من تحتكر مسؤولية التصدي لأي عدوان، ناهيك عن ما يمكن أن نحمله من تبعات سوء العلاقة بين من ننتمي لهم والسلطات السورية ..فكان أن وصلنا إلى مقر لحزب البعث , نعم , إذ يبدو أنه لا يوجد غيره (شرعي) في المنطقة.. .
كان في المكان -وهو شقة كبيرة- بضع شبان في أيديهم بنادقهم الموضوعة بوضعية الامان , مسترخين على مقاعد حديدية صدئة . استعلمنا منهم عن آخر الأخبار وأين وصل الجيش الإسرائيلي و تطورات الموقف التي تتغير متسارعة ، أحسوا بضياعنا وخوفنا من الأمن السوري ،ورغم ما يبدو عليه حالنا لم يقدموا لنا سوى كؤوس شاي لا تكاد تشرب ، بل و أمعنوا بإدخال الرعب في قلوبنا أكثر.. وهولوا من فضاعات ما يرتكبه " الإسرائيليون" وسرعة تقدمهم من جهة، واحتمال المحاكمة العسكرية إذا ما ألقى علينا الأمن السوري القبض بينما نحن مسلحون من جهة اخرى , وقال أحدهم" جيد أنكم جئتم إلينا خيراً من الوقوع بيد الأمن و سنساعدكم .."..
تشاورنا معهم فيما يجب علينا فعله ونحن جرحى وقد استنزفنا آخر طاقتنا في هذا الطريق، فكان أن أشاروا علينا، بصفتنا سوريين جميعاً، بأن نغادر إلى سوريا، و دلونا على كيفية الوصول إلى الحدود، ولكن لابد أولاً من التخلص من السلاح الذي معنا.." اياكم والتحرك بسلاحكم, والا فأنتم من ستضيعون أنفسكم.. " إذاً لاحل سوى بترك أسلحتنا "بأمانتهم"والتوجه إلى سهل البقاع وصولا للحدود ومن ثم إلى دمشق..
كان خياراً صعباً ان نترك سلاحنا، ولا ندري تبعات ذلك الأمر مع الجهات التي نتبع لها عسكرياً، لكن إحساسنا بأن الحرب ستحرق كل شيء جعلنا نقرر الموافقة على ذلك.. فتركنا بندقيتين كلاشنيكوف ورشاش bks , و مسدس مكاروف , وباقي الذخيرة التي كانت في حوزتنا ..
" أكرمَنا" الرفاق بتوصية أحد السائقين بأن يوصلنا في طريقه إلى نقطة متقدمة من طريقنا " الى الشام"..!
و فعلاً قام الرجل بإيصالنا إلى تلك الوجهة , ثم أخذ طريقاً معاكسة واختفى..
يجب تأمين سيارة عابرة إلى دمشق.. كيف ذلك والطريق إلى دمشق بدت وكأنها مهجورة في عز النهار!
وكان مظهرنا مريباً فقد هدنا التعب والجوع والخوف، وكلنا جرحى مضمدين ونرتدي لباساَ عسكريا،وكلما اوقفنا سيارة نسأل سائقها عن مقصده كان يتهرب، أو يستغرب وجهتنا،"ياعمي حدا بيمشي عطريق الشام اليوم...؟!
لم ندرك معنى هذا القول إلا عندما أكملنا المسير فوصلنا إلى ذاك الممر الجبلي الذي يكاد يكون إجبارياً بين البقاع وباقي لبنان، انه ظهر البيدر.. .
اتضح لنا هول الكارثة..فقد كان ذلك اليوم هو بعد ظهيرة التاسع من حزيران 1982, حيث قصف الطيران الإسرائيلي لواءًا مدرعاً للجيش السوري,كان يتجه من الحدود السورية إلى الداخل اللبناني ، وذلك بعد أن تم التشويش من البوارج الامريكية في البحر المتوسط , ومن خلال طائرات الاواكس على الرادارات السورية ، فتم إسقاط العديد من الطائرات السورية التي كانت تغطي تحرك الجيش المدرع على الأرض..وتكفل الطيران المعادي بإحراق القوات على الأرض بشكل كامل .
كان المشهد مأساوياً , فقد امتلأت طريق الشام وجانبيها بالموت , و بحطام الدبابات وناقلات الجند وسيارات الزيل والعتاد العسكري الذي دمر بالكامل بما فيها حطام لطائرة لا يزال العلم السوري المرسوم على جسمها بادياً..
كيف حدث هذا ؟ كيف تدير قيادة سوريا معركة مع "اسرائيل" هكذا ..؟أسئلة لاتزال تبحث عن إجاباتها إلى اليوم ..
النار والحرائق طالت الشجر ومزارع الكرز التي تنتشر بكثرة في المنطقة ، و بفعل الجوع ,مددت يدي إلى غصن تحطم على التراب و طاله لهيب النار، رفعت يدي الملفوفة والتي تضاعف حجمها مرات, كان الألم قاسياً لكن قطوف الكرز التي لفحتها النيران كانت تبدو كالكهرمان , أغرتني بالأكل ، أرخيت يمناي المعصوبة على الغصن الكسير، ثم بدأت أقطف بعض الحبات التي كان قوامها طرياً, ينز منها سائل أحمر شهي المذاق.. التهمت عدداً منها, وأنا أسير بين الأشجار إلى أن انفتح المشهد على هيكل معدني لسيارة عسكرية وقد ذاب أحد الجنود ليأخذ رماد جسده شكل تعرجات الهيكل المعدني.. لكن لمعة دماءه لاتزال تتسلل من بين تشققات رماد الجسد وخيط دخان واه لا يزال يتصاعد من غير مكان في الجسد المنكوب.. كان الدم يبدو طازجاً، كعصير الكرز الذي سأل على أصابعي.. شعرت بالغثيان، و اعترت بدني قشعريرة كوخز السكاكين، ضعفت قدرتي على البقاء واقفاً فنزلت على ركبتي, وشعرت بدفقة من جوفي تخرج ما تناولته.. أحسست بلون الدم يطغى ليغشى بصري.. ساعدتني يد فريد الذي مسح وجهي بقليل من الماء، ساعدني بالنهوض,وقد سقط غصن الكرز من تحت إبطي المثقل بالألم..
-هل تريد الأكل بعد؟
هززت برأسي رافضاً.. " لن أتناول الكرز بعد اليوم" قلت وتمتمت , الكرز دم.. الكرز دم.. الكرز دم
قال لي الرجل الذي يقف قريباً مني : "فعلاً الكرز ده دم خالص.. "
أدركت وجودي الفعلي أمام بسطة الكرز القادم من أرض الشام، ويسعد بها السوريون الهاربون إلى هنا في أرض مصر..
عاود الرجل قول: "الكرزات دول دم على حلّو.. عايز كام حضرتك..؟ "
لم أجب.. هززت رأسي ومضيت بعد أن ملأت رأسي رائحة كرز سوري مشوي , مشوي كثيراً..
تعليقات
إرسال تعليق
نرجو كتابة تعليقاتكم و آرائكم بحسب رغبتكم ..ولكم كل الشكر